حبات عرقي تتسلق جسدى لتنزل بدفئها علي سنوات عمري الماضية بكل ما فيها من قسوة .. كاد الفقر أن يلتهمنا .. فكانت غربتي هي الدواء الناجع لحالة الفقر التى نهشت عظام أمى المسكينة .. في هذا الجحر الذي يأوي عائلة بكاملها .. علاوة علي ما يأويه من حشرات وقوارض وحيوانات مستأنسة .. أتذكر ذلك اليوم الذي خرجت فيه من بلدى بحقيبتي الرثة التى كانت تفتح فمها لتبرز ما بداخلها بشكل مقزز مما اضطرني لربطها بحبل قوى جدله جدى المسكين من الكتان..
كانت الغربة تستقطع في كل يوم جزء من عمري .. فأهوّن علي نفسي كلما تذكرت سعال أمى التى أكل صدرها "الربو" ولم يكن معي ما أطببها به !! وكل ما يحيط بنا من فقر يفترس الكل بلا رحمة .. صاحب العمل يطلب المزيد من الجهد .. أعمل بلا هوادة حتى لا أشعر بجسدي إلا عندما أضعه إلي جوار الجثث المنهكة من العمل مثلي ولا يهمها إلا أن تجد قطعة أرض تكفي أن تضع جنبها فيه .. تسيل الإهانة من الأجساد الملقاة .. ولكن الكل يحلم بغدٍ أفضل .. الكل أتى ليجمع المال الذي يضع به قواعد حياته ومستقبله ويعم الخير علي الجميع من حوله!! حلم الراحة في الغد يراود الجميع..
أغط في النوم قليلاً .. فإذا برائحة شواء تداعب أنفي وتعبث بشهيتى .. انسلخ من بين الأجساد التى تصدر أصوات التعب وكأنها تعاني زفرات الموت .. أفتح النافذة لأستزيد من رائحة الشواء.. فتتمتع عينى بمنظر العز .. أسياخ اللحم المشوي .. تتطاير رائحتها ليسيل اللعاب لها.. وكؤوس الشاي المذهبة يُثيرنى بريقها .. أغمض عينى وأطلق العنان لخيالي لأتخيل الدار التى سأشتريها في بلدى ، وأهلي يجلسون حولي في وسط الدار نستمتع بالشواء ورائحة الشاي الأسود وأم كلثوم تغنى فتكتمل نشوة الحياة ..
أعود لمكاني بين الأجساد شبه الميتة .. أحمل حلمى في قلبي ..
يوقظني من حلمى سياسة القهر التى تفرضها دولة النفط التى أعمل بها ، وأتساءل : كيف أعمل ليل نهار .. وتفرض علينا هذه الحكومة أن نحوّل قدراً معينا لأهلنا ونصرف الباقي داخل الدولة ؟؟
عزمت علي ألا أخضع للقهر.. لابد من حيلة أجمع بها حبات عرقي من الضياع!!
أفكر مع بعض أصدقائي في هذه الحيلة؟؟
قفزت لي فكرة .. فقد كانت صورة جدى وهو يجدل الكتان تتراءى لي.. وقد علمنى كيف أجدل الحبال وأفتلها وأبيعها لأكسب بعض القروش القليلة .. اليوم سأفك الحبل الذي جدله جدى لأحزم به حقيبتى .. سأعيد جدْل الحبل ولكن هذه المرة سأجدل معه حبات عرقي.. سأجدل النقود التى جمعتها بدمى .. ولن يستطيع الجن ذاته أن يعرف أن هذه الحقيبة الرثة التى أتيت بها وهذا الحبل القذر سيحمل مستقبلي كله .. سيحمل الحياة الكريمة لي ولأسرتي..
فمازلت احتفظ بهذه الحقيبة وهذا الحبل الذي يحمل رائحة جدى المغموسة بالفقر.. في كل يوم أنتهز فرصة نوم رفاق الغرفة وأبدأ في جدل نقودى مع الكتان .. لَمَحَنْى أحد الرفاق وأنا أبرم الورقة فئة المائة درهم وأجدلها .. وبعدما تعجبْ.. فَهِمَ أننى أريد أن أفر بالنقود لأخرج بها خارج البلاد .. لم أنتبه لغيرته ولا حقده الدفين .. لانهماكي في حلم عمري..
اليوم سأغادر بلد النفط إلي بلدى الحبيب .. سأعيش كآدمي أنا وعائلتي بهذا الحبل .. ذهبت إلي المطار وكلي اطمئنان .. وإذا بالضابط يلطمنى بقوله : عندى إخبارية إنك ستُهَرِبْ نقودك خارج البلاد!! .. أين هي؟؟
كست وجهى سحابات قلق بسيطة .. تبددت حينما ألقي بالحبل أرضا وهو يلقي بكل ملابسي ويمزق الحقيبة لعله يجد ضالته .. ساقوني لحجرة التفتيش الذاتي .. أهدروا باقي كرامتى لأدلهم علي مكان النقود .. ولكن هيهات .. لم يجد أحد معي شيئا .. ولكن الضابط أصر أن أخبره بالمكان الذي أخفي فيه النقود .. فعزمتُ ألا أخبره .. فلما فاض الكيل بالضابط .. خيرنى بين أن أخبره عن مكان النقود مع وعدٍ أن يُخلي سبيلي مع أموالى .. أما أن يلفق لى تهمة ويسجنني باقي عمري .. فارتديت ملابسي ولملمت حقيبتى الممزقة والتقطت الحبل من الأرض ونظرت إليه والدموع تتحجر في مقلتى لتجعل منهما كأسين من جمر.. وبدأتُ في فك الحبل لتظهر أول ورقة نقدية .. انسحب الضابط من أمامي فربطت حقيبتى المسكينة بحبات عرقي .. وعدت لبلدى ألملم أشلاء كرامتى التى بعثرتها علي تراب أرض النفط .. هرولت إلي جدى في الحقل احتضنته بقوة ثم بسطت جسدى علي تراب أرضي أتمرغ فيها وأزيل عن جسدى مرارة الإهانة لأبدأ من جديد حياة كريمة.