أحاط قلبه المشحون بالمشاعر بسياج من الجدية والصرامة ، تكسرت دونه كل السهام التى أطلقتها عليه عيون الغزلان .. لم تستطع الغزوات المتراهنات علي قلبه أن تقتحم حصونه المنيعة .. حبس مشاعره وأوصد باب عواطفه ورمى مفاتيحه خلف السنين .. لم يكن يشغله سوى عمله ورصد سلوك البشر الذين يظهرون ما لا يبطنون .. ظل مستمتعاً بحياته علي هذا النحو المترفع .. يحكم علي من حوله بدوافع سلوكهم مستعينا بحاسة الاستشعار التى وهبه الله إياها .. حتى دفعتها الأقدار إلي طريقه .. قرأ في وجهها أصدق المعاني .. سمع من صمتها أجمل العبارات . . تلقي من عيونها الخجولة تلغرافات تشي بمخزون من المشاعر البكر .. لا تعرف الزيف ولا تعترف بالمساحيق .. استطاعت دون ان تدري أن تثقب في جداره الصلب ثقباً صغيراً دلفت منه إليه .. حاول ان يخرجها وان يرمم الثقب من جديد فما استطاع ... استسلم .. في كل لقاء كان الثقب يتسع .. بأناملها الرقيقة .. بمشاعرها الحانية ..بعواطفها الرقراقة .. بصدق ما بداخلها ..
تصدع الجدار وهوى .. أصبحا في المواجهة .. كاشفها وكاشفته . رأت فيه مثالها ورأى فيها ضالته .. تواصلا .. لا ينام أحدهما إلا إذا أفضى بما في داخله للأخر .. صهرهما الوجد .. صارا روحا واحدة في جسدين غذاؤهما الحب .. شرابهما الحنان .. تحليتهما العواطف .. وجبات حرصا علي تناولها أكثر من مرة في اليوم الواحد ..
حتى أورقت سنينه العجاف وازدهرت .. أما هي فقد تمددت براعمها .. تفتحت ورودها .. عانقت الشمس .. فاح أريجها .. انتشر شذاها .. اتسعت دوائرها .. أسعده طموحها وتطلعها للسماء .. شدتها الأضواء .. انشغلت عن غذائهما اليومي .. قَلّتْ شهيتها .. صامت عن وجبة الصباح .. ثم عن وجبة الظهيرة .. ثم عن وجبة المساء .. أحس بارتياحها للصيام .. نبهها لزادهما الذي انشغلت عنه .. اعتذرت .. تسامح .. لم يكن يستطيع غير ذلك فقد أفرغ عندها كل ما ادخره في خزائن قلبه من مشاعر .. أصبح لا يري في الكون سواها كأنما صارت أمامه كل البشر .. تقلصت مواعيد وجباتهما .. فليس لها مكان علي أجندتها المتخمة .. بدأ يستشعر ما لم يكن يتمناه.. حاول إغلاق قلبه دونها .. ولكن صورتها حالت دون الإغلاق .. حاول العودة إلي صومعته التى أخرجته منها .. بحث عن أنقاض الجدار القديم الذي ثقبته والذي تهاوى لعله يعيد ترميمه وبناءه من جديد لتصوم أزهاره وتتساقط أوراقه .. ولكنه رأى روحه معلقة بين السماء والأرض .. ونبضات قلبه تنبض بأنفاسها وما كان يعزيه أن عقله يقول له دائماً : لا غرابة في ذلك .. فتلك هي دورة الحياة.