الليل يثير شجوني .. يقلب علىّ المواجع .. أراه اليوم كمقبرة مظلمة تلفظ رفاتها .. يخرج الذبيح من باطنها .. مازال يقطر دماً .. صورة مفزعة لليليّ المحبوب الذي كان بالأمس القريب رمز السعادة والهناءة .. كنت أرى فيه أغاريد الشجر وبسمة القمر .. حتى المصابيح تشق صدر الليل لتبعث فيه البهجة والحياة.. والنجوم تتراقص فوق رؤوس المحبين فنسمع موسيقاها .. نغنى لحن الحب .. نترنم ترنيمة عشق .. نرى الملائكة تهبط لتشاركنا السمر ..
كيف تبدل جمال الليل بعد رحيلها إلي وحشة وسواد وشحوب وموت .. أهي الدنيا حقاً فإن ذهبت .. ذهبت الحياة؟؟..
أغمضت عينى حتى لا أرى كيانى مبعثراً في دروب الليل .. لكنها تطاردنى .. ذكرياتي معها تتراءى لي .. حياتى معها لحظات حب صادقة .. تسربت جميعها إلي قرار سحيق حينما صدمتني برغبتها في السفر لتحقيق حلمها وطموحاتها .. فهي لا تستطيع رفض المنحة الدراسية .. والحب والزواج يمكن تأجيله ..
دقت أجراس رفض البعاد حولى .. رفضت بشدة .. فأنا لا أتخيل الحياة بدونها .. وضعتها في موضع اختيار بينى بكل ما أحمله لها من حب .. أو المنحة .. وكان الرد واضحاً .. أنبأ عنه طأطأة رأسها .. تركتها وأنا أشعر بأننى أشيع عزيزاً فقدته للتو ..
شعرت بأن الشهيق وقف في صدرى ولم أستطع الزفير .. ففككت أزرار قميصي وأخذت نفساً عميقاً حتى يخرج زفير هواها من صدرى ..
حاولت نسيانها .. بطريقة داوني بالتى كانت هي الداء .. وكلما حاولت غرقت أكثر في زمن الحب المفقود .. رحتُ أتخبط في دنيا النساء .. جميعهن جميلات .. ولكن أين هي؟؟ .. ففي ميزان النساء هي الأرجح .. فلم تترك أحداهن بصمتها في قلبى..
رقدت معشوقتى في قاع عيني حتى صارت هي المقياس الذي يقاس عليه كل النساء ..
تركزت كل النساء في جميلتى .. سجنتُ روحها داخل أسوار قلبى النابض بحبها .. بعد أن أفرجتُ عن جسدها الذي فضل التحليق فى سماء الطموح ..
ناشدتُ الاستقرار وطمأنينة الحياة .. تزوجت بمن اختارتها لي والدتي .. بنت حلال لا تألو جهدا في إسعادى .. ولكنها لم تحرك فيّ ساكناً .. كانت كالنيل .. مياه هادئة عذبة لا تستطيع مواجهة هدير البحر الهائج بداخلي..
أدركت أنها قد تناثرت في خلاياي فلم تترك مساحة لغيرها ..
هي في عينى ملكة ترفل في ثياب الفتنة المفعمة بالشباب .. كانت لي الأرض البكر .. أرويها بماء ذكورتي وتسقينى شهد أنوثتها .. لم نكن سوى آدم وحواء .. لا نرى علي الأرض سوانا .. لا نخشى عيناً ولا نعرف ذنباً .. كان النهار والليل ملكاً لها .. فكأس النهار أحتسيه من ثغرها الباسم .. وكأس الليل ارتشفه في جنتها اليانعة .. أشرب من بحور عسلها الأنثوي الرائق .. فأنا في عطش دائم .. و ارتواء لا يُمل يعقبه عطش .. وهكذا الأوقات معها ..
مرت سنوات البعاد ثقيلة .. لترسم علي وجهى أننى تألمت في بعادها .. فقد أقسمت علي نفسي ألا أحاول قطع مسيرتها إلي سُلم الطموح .. ويوم ان وجدتها أمامي بكل وجاهتها وأناقتها .. حدثتها .. طفت الذكريات علي سطح المشاعر .. طوقتُ الذكرى في عينيها .. كدت أسبح في شواطئها .. فلطمتني أمواج الجمود .. غيّر الزمان الكثير من ملامحها .. حتى روحها تجمدت ورسمت علي وجهها علامات الجدية والصرامة .. نظرتُ في عينيها .. لم أجد فيهما الشعاع الذي أسرني طوال تلك السنوات الفائتة .. سقط تمثال الحب بداخلي .. وانهارت المقاييس .. فلم يعد من محبوبتى سـوى تمثال آلي يدور بحكمة العقل ..
هبت من جلستها .. لتمد يدها لتتلقفها يد كبيرة .. تخطو بها ناحية سيارة فارهة .. أقف ناظراً تجاهها .. فلا تلتفت .. تنزف من روحى أخر نقطة ذكرى .. يتخلص جسدى من شظايا حبها المنثور في كل أنحائه .. عدت إلي بيتى .. اغتسلت وتطهرت من حبها حتى برئت .